د. ظافر محمد العجمي
يتضمن نظام الملفوظات الغربي بعد كل عمل إرهابي كلمات وإشارات وتلميحات فظة مستقاة من ما بين المحيط والخليج من أسماء ولغة وعرق ودين، يقابلها العقم التاريخي للمساعي العربية التي بذلت طوال عقود لتغيير تلك الأحكام الغربية المتحاملة التي تربطنا بالإرهاب، ما جعل كل داعشي من شذاذ الآفاق يتبنى سياسة القتل المرعب للتعريف بالدولة الإرهابية وإيصال الرسالة، تاركاً كما يتوهم الغرب وثيقة سفره وكفنه من بقايا الحزام الناسف، والأولوية الآن للتعرف على الجثث، من كلا الطرفين، فالحمض النووي سيظهر أن هناك عرباً ومسلمين بين الإرهابيين والضحايا، كما سيكون هناك فرنسيون بين الإرهابيين والضحايا؛ فالإرهاب فكرة لا تتلمس هوية أو دين العقل التي يحتضنها.
نقول لباريس الجميلة.. ابحثي عن نائحات من مكان آخر، فنائحاتنا لا يجدن الوقت للنواح عندكم، فمنذ سنين وهن يقمن النواح والحزن على قتلانا في شوارع القدس والضفة الغربية وغزة وفي أطراف العراق الأربع وتحت أنقاض المباني في سوريا، وفي كل زنقة في ليبيا، وعلى الضحايا من الذين قتلهم الحوثيون، لكننا نستطيع راهناً أن نمدكم بالكثير من الإدانة والشجب فقد اكتوينا بنيران داعش مثلكم.
الإرهاب جريمة سياسية، وفرنسا ارتبكت جرماً سياسياً في تدخلها المرتبك في الشام، ولولا تردد باريس بعد أن انتقلت إليها العدوى من باراك أوباما لكان الطاغية الأسد من مخلفات الماضي، ولما وجدت بذرة داعش بيئة حاضنة لها، كما كان هناك ثغرات أمنية ست في باريس، لو كانت في بلد عربي لطالب البعض بإقالة وزير الداخلية، لكن النفاق جعلهم يغضون الطرف عن وزير الداخلية الفرنسي وتقصيره كجزء من النظام السياسي الفرنسي، كيف تغافل وزير الداخلية الفرنسي ولم يتوقع الانتقام وللتو عادت المغيرات الفرنسية من دك الرقة، معقل الدولة الإرهابية؟ كيف تجاهل أن العدو عقرب مقتدر مثل داعش يجند شذاذ الآفاق بسرعة غريبة؟
حين بدأت الحملة الجوية الروسية في سوريا، وبعد التنديد الشديد باستهداف موسكو للحركات السورية المعتدلة المناهضة للأسد، وزعت الآلة الإعلامية الروسية ما يفيد ببحث العسكر عن هدف كبير يحقق الزخم المنشود ويبدد تلك الاتهامات، وكان على رأس قائمة الأهداف العاجلة قتل البغدادي وقتل محمد موازي (JEHADI JOHN)، لكن واشنطن سبقتهم إلى قتل الجهادي جون، بعد يوم واحد من قصف الطائرات الفرنسية للرقة. وعليه ففي تقديرنا أن هجمات باريس كان سببها الأهم هو الانتقام من الغارة الفرنسية التي ربما قتلت شخصاً مهماً بالرقة غير موازي، كما لا نستبعد أن تكون الضربة القادمة انتقاماً لمقتل موازي.
د.ظافر العجمي

سعى ملتقى أبوظبي الإستراتيجي الثاني الذي نظمه مركز الإمارات للسياسات 2-3 نوفمبر 2015 إلى مقاربة التحولات الجيوسياسية التي طالت خريطة توزيع القوة في العالم، وتحولات النظام الدولي، والتهديدات والمخاطر العالمية، وقضايا منطقة الشرق الأوسط، عبر 9 جلسات تضمنت ما يفوق 70 مداخلة ومناقشة على هامشها، وبمشاركة 300 من صانعي السياسات والخبراء والأكاديميين من 40 دولة.
كان الافتتاح بجلسة عن الخليج العربي في العالم الجديد؛ وخصصت لتناول البيئة الإقليمية المتغيرة التي تحيط بمنطقة الخليج، والتحول في الإستراتيجية الأمريكية تجاه المنطقة، وقد أتيحت لي الفرصة لأكون متحدثاً فيها، حيث أنقل لكم ما خلصت إليه الجلسة دون توسع؛ رغم اعتمادي بشكل كبيرعلى مادونه فريق المركز وشملت الآتي:
- لأول مرة تشهد منطقة الخليج، ذات الأهمية الإستراتيجية، هذا القدر من الاضطرابات المحيطة بها، والمتمثلة في حروب وصراعات تنتشر في الجغرافيا السورية والليبية واليمنية، فضلاً عن الفوضى الأمنية التي تطبع المشهد العراقي منذ سنوات، وتمدد تنظيم «داعش»، دون إغفال التدخلات العسكرية الأجنبية، لاسيما الإيرانية في العراق وسورية واليمن والروسية في سورية.
- إن السياسات الأمريكية في المنطقة بدءاً بالربيع العربي ومروراً بتوقيع الاتفاق النووي الشامل مع إيران جعلت دول الخليج العربية تشعر بعدم الثقة بالحليف الأمريكي، كما إن اتباع الولايات المتحدة سياسة قائمة على رد الفعل والتأخر في اتخاذ قرارات فيما يتعلق بشؤون الخليج وصراعات المنطقة، جعل دول الخليج لاتعول كثيراً على فاعلية الدور الأمريكي.
- لقد عكست عملية «عاصفة الحزم» في اليمن تحولاً في التفكير الإستراتيجي الخليجي، واقتناعاً بضرورة الاعتماد على القدرات والمبادرات الذاتية لحماية أمن المنطقة ومصالحها، ومثلت في الوقت نفسه رفضاً لتكرار تجربة العراق. بعد أن وقفت دول الخليج ساكنة بينما كان بلد عربي كبير على حدودها يسقط تحت الهيمنة الإيرانية.
- عززت المخاطر والتحديات في الإقليم المضطرب لدى صانع القرار في الخليج الاقتناع بضرورة بناء نموذج للقوة بمفهومها الشامل لحماية النموذج التنموي للدولة، والانتقال من التعامل مع التحديات من موقع رد الفعل إلى استباق المخاطر والتهديدات المحتملة.
- تعاني المنظومة الخليجية من غياب إستراتيجية موحدة ومتفق عليها بين دولها للاستجابة للتحديات والتهديدات الناشئة، وهذا ما يتبدى في كيفية التعامل مع حرب اليمن ومع التهديد الإيراني وخطر الإسلام السياسي.
- بالرغم من الخطاب البلاغي الأمريكي عن «الاستدارة نحو آسيا»؛ تظل منطقة الشرق الأوسط بعامة، ومنطقة الخليج بخاصة، مهمة للسياسة والمصالح الأمريكية، بشرط عدم التورط في حروب المنطقة وتحميل القوى الرئيسية في الإقليم مسؤوليتها إزاء أزمات المنطقة.
لقد كان ملتقى أبوظبي الإستراتيجي الثاني فرصة لاتفاق المشاركين في هذه الجلسة، وهم من المختصين، على أن أمن الخليج في زمن تشتعل فيه المنطقة بالحروب هش للغاية، ودول الخليج لن تستطيع الحفاظ على استقرارها بدون مخالب عسكرية.
د.ظافر العجمي
التكتيك هو الخيار الذي تقره الاستراتيجية للتعامل مع العدو على الأرض، لكن الجنرال الروسي بوريس داساييف «BorisDasaev» قائد العمليات الجوية الروسية العاملة في سوريا في حيرة من أمره، متى يوقف القصف الجوي ويبدأ في وضع تكتيك الحملة البرية؟ وهنا تبرز أمامه معضلتان، تتعلق الأولى بمعرفة قدرة الثوار على القتال، والأخرى تتعلق بالقوة البرية التي ستمسك الأرض. واتساع مساحة عدم التيقن عن حالة الثوار تتمثل في صعوبة مسح ساحة المعركة، والتي تحتاج لتخصيص موارد هائلة ليست في خزينة الحرب الروسية، لتوفير أنواع عدة من طائرات التجسس. كما تتطلب معرفة حالة العدو باستخدام أقمار صناعية وبكاميرات متنوعة على مدار الساعة لرصد أجسام ثوار مهرة في التخفي بين الأنقاض. وقدرة على رصد الآليات والمدرعات، ورادارات يوم غائم وأجهزة اعتراض الاتصالات.
أما المعضلة الثانية، فتتمثل في معرفته أن جيش بشار الأسد والميليشيات الموالية له تفتقر للإرادة القتالية الحقيقية، أو أنها لا تملك الشجاعة الكافية للتقدم والإمساك بالأرض، جراء عدم تجانس العناصر المقاتلة نتيجة اختلاف جنسياتها، وعدم تأهيلهم في مناورات لسنوات عدة قبل خوض «معركة تحالف» أو «معركة أسلحة مشتركة»، جوية وبرية وبحرية. وقد أثبت الشهر الماضي ذلك، فقد أعطت القوة الجوية الروسية مجالاً لتقدم قوات الأسد وبمجرد توقف الغارات الجوية عادت فصائل المعارضة للسيطرة على المناطق التي انسحبت منها، فيتم أسر جنود قوة النظام المقتحمة وتدمير آلياتهم. وإن لم يتم ذلك تخندق جنود الأسد وبقوا أسرى خنادقهم. ويعني ذلك للجنرال الروسي أنهم فشلوا في تحقيق جوهر المطلوب في الحرب البرية فالحرب لا تنتهي بمجرد الاستيلاء على الأرض، وترك ما خلفته المعارك من دمار وخراب وفوضى، بل يجب مسك الأرض «Seize And Hold Ground» بما يشمله هذا التعريف العسكري من التخلص من آثار الحرب، وفرض مظاهر السيادة، وتدعيم والاستقرار والأمن فيها.
أما في الحملة الجوية نفسها فقد تكشف خلال الشهر الماضي أن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين قد أرسل عدداً محدوداً من المقاتلات، ليس لمعظمها قدرة على القتال الليلي. فـ»السوخوي» بأنواعها 24، 25 ضعيفة المناورة وذات أجهزة تسديد متخلفة، رغم تحديثها أكثر من مرة، كما إن حجمها كبير، وضجيجها مرتفع، ومشاهدتها سهلة، فتلقي قنابلها من ارتفاعات عالية فتفقد دقة الإصابة. أما الطائرة «سوخوي 35»، فطائرة حديثة ومخيفة، لكنها كبيرة الحجم ضعيفة التصفيح. أما الهليكوبتر «مي، 25-MI» الهجومية فكانت تستخدم لإلقاء البراميل المتفجرة، ويبدو أن «صاروخ تاو» سينهي فعاليتها أثناء طيرانها المنخفض. كما تعاني الحملة الجوية الروسية من عدم توفر بنك أهداف مما دفعهم لاستجداء واشنطن للحصول على الأهداف، فرفضت التعاون معهم رغم وحدة الهدف. فاعتمدوا على معلومات مسيسة من طهران، أوقعت المجازر بالمدنيين السوريين الأبرياء عمداً، بل إن سوء النوايا الإيرانية تجاه الروس ظهر في خطأ المعلومات التضاريسية التي تسببت في ارتطام أربعة صواريخ كروز أطلقت من سفن حربية روسية في بحر قزوين بالأراضي الإيرانية، في مفارقة تبشر بصدام بين موسكو وطهران خصوصاً بعد ارتفاع نبرة انزعاج إيرانية من خسرانهم لاستثمارات ضخمة وضعوها في «صندوق الأسد القابض»، لكنه فقد الأراضي السورية المنتجة للنفط والقمح، وهو في طريقه لتسليم «سوريا المنتجة»، بموانئها ومطاراتها للروس.
أرشيف المدونة الإلكترونية